في العصور الوسطى، قطع الفرسان المسيحيون الصليبيون مساحات شاسعة من الشرق الأوسط في محاولة لاستعادة القدس من المسلمين. وقام المسلمون بدورهم بقطع طريق الغزاة باستخدام نوع خاص جدًا من السيف، والذي سرعان ما اكتسب شهرة أسطورية بين الأوروبيين. كانت هذه "الشفرات الدمشقية" قوية بشكل غير عادي، لكنها ظلت مرنة بما يكفي للانحناء من المقبض إلى الطرف. ويُقال إنهم كانوا حادين للغاية لدرجة أنهم تمكنوا من شق وشاح حريري يطفو على الأرض، تمامًا مثل جسد الفارس.

لقد كانت أسلحة فائقة الجودة أعطت للمسلمين ميزة كبيرة، وكان الحدادون لديهم يحرسون بعناية سر تصنيعها. انتهى السر في النهاية في القرن الثامن عشر ولم يتمكن أي حداد أوروبي من إعادة إنتاج طريقته بالكامل.

قبل عامين، كشفت ماريان ريبولد وزملاؤها من جامعة دريسدن عن السر الاستثنائي للفولاذ الدمشقي - أنابيب الكربون النانوية. كان الحدادون القدامى يستخدمون تكنولوجيا النانو عن غير قصد.

تم تصنيع شفرات دمشق من قوالب صغيرة من الفولاذ من الهند تسمى "ووتز". يتم تصنيع جميع أنواع الفولاذ من خلال السماح للحديد بالكربون بتصلب المعدن الناتج. المشكلة في تصنيع الفولاذ هي أن المحتوى العالي من الكربون بنسبة 1-2% يجعل المادة أكثر صلابة، ولكنه يجعلها هشة أيضًا. هذا غير مفيد بالنسبة لفولاذ السيف لأن النصل سوف يتحطم عند الاصطدام بدرع أو سيف آخر. كان من المفترض أن يكون Wootz، بمحتواه العالي من الكربون بنسبة 1.5% تقريبًا، عديم الفائدة في صناعة السيوف. ومع ذلك، أظهرت السيوف الناتجة مزيجًا مستحيلًا على ما يبدو من الصلابة والمرونة.

قام فريق ريبولد بحل هذه المفارقة من خلال تحليل سيف دمشقي صنعه الحداد الشهير أسد الله في القرن السابع عشر، وتبرع به متحف برن التاريخي في سويسرا. وقاموا بذوبان جزء من السلاح في حمض الهيدروكلوريك ودرسوه تحت المجهر الإلكتروني. ومن المثير للدهشة أنهم وجدوا أن الفولاذ يحتوي على أنابيب الكربون النانوية، كل واحدة منها يزيد حجمها قليلاً عن نصف نانومتر. يمكن وضع عشرة ملايين جنبًا إلى جنب على رأس دبوس طباعة الورق.

أنابيب الكربون النانوية عبارة عن أسطوانات مصنوعة من ذرات الكربون مرتبة بشكل سداسي. وهي من أقوى المواد المعروفة وتتمتع بمرونة كبيرة وقوة شد. في تحليل ريبولد، كانت الأنابيب النانوية تحمي الأسلاك النانوية المصنوعة من السمنتيت (Fe3C)، وهو مركب صلب وهش يتكون من الحديد والكربون الموجود في الفولاذ. هذا هو الجواب على الخصائص الخاصة للفولاذ، فهو مادة مركبة على مستوى النانومتر. إن قابلية أنابيب الكربون النانوية للطرق تعوض الطبيعة الهشة للسمنتيت المتكون من كعكات ووتز عالية الكربون.

ليس من الواضح كيف أنتج الحدادون القدماء هذه الأنابيب النانوية، لكن الباحثين يعتقدون أن مفتاح هذه العملية يكمن في آثار صغيرة من المعادن في الوتز بما في ذلك الفاناديوم والكروم والمنغنيز والكوبالت والنيكل. تسببت المراحل الساخنة والباردة بالتناوب أثناء التصنيع في فصل هذه الشوائب إلى طائرات. ومن هناك، ستكون بمثابة عوامل محفزة لتكوين أنابيب الكربون النانوية، والتي بدورها ستعزز تكوين أسلاك السمنتيت النانوية. تشكلت هذه الهياكل على طول المستويات التي حددتها الشوائب، مما يفسر الخطوط المتموجة المميزة، أو الدمشقي (انظر الصورة في الأعلى)، التي تشكل شفرات دمشق.

ومن خلال التحسين التدريجي لمهاراتهم في صنع الشفرات، كان هؤلاء الحدادون في القرون الماضية يستخدمون تكنولوجيا النانو قبل 400 عام على الأقل من أن تصبح الكلمة العلمية الطنانة في القرن الحادي والعشرين. الخام المستخدم لإنتاج الوتز يأتي من المناجم الهندية التي استنفدت في القرن الثامن عشر. ومع عدم توفر المزيج الخاص من الشوائب المعدنية، فُقدت القدرة على تصنيع سيوف دمشق. الآن، وبفضل العلم الحديث، قد نتمكن في النهاية من كيفية استنساخ هذه الأسلحة الرائعة، والأهم من ذلك، الفولاذ الفريد الذي تم تشكيلها منه.

التاريخ

الفولاذ الهندواني أحد تقنيات سبك وكربنة الحديد الصلب المبتكرة جنوب الهند في القرن السادس قبل الميلاد، كان الفولاذ الهندواني يُستورد على السفن اليمنية من جنوب شرق الهند وسيريلانكا إلى دمشق، حيث تتم إضافة كربون شجرة معينة إلى طبقات الفولاذ لتحويلها لما يشبه ما يسمّى في عصرنا “السوپرپلاستك”، فولاذ خفيف الوزن وشديد الصلابة، ونوع الشجرة غير معروف اليوم.

ابتُكر الفولاذ الدمشقي في القرن الثالث وازدهرت صناعته في السيوف خلال عهد الدولة الأموية وبعدها العباسية، وانتشرت من دمشق نحو صقلية وبلنسية وغرناطة وقرطبة، وكذلك انتشرت في بخارى وسمرقند في عهد الدولة التيمورية، وانتقلت إلى اليابان حيث صُنعت منها سيوف الساموراي الكاتانا، وكذلك صنعت منها سيوف شانگو الصينية، ووصلت كذلك شمال الهند مع الدولة التيمورية (سلطنة المُغال) حيث أُسّست صناعة له في دلهي.

نسخة أخرى من الفولاذ الدمشقي معروفة في آسيا وشرق أوروپا باسم {بولات}. وكلمة بولات هي تحوير قوقازي قپچاگي (قفجاقي) عن كلمة {فولاد} الفارسية المحوّرة عن “فولاذ” العربية. عادت صناعة البولات إلى دمشق مع السلطنة العثمانية وتحوّرت الكلمة ليلفظها الدمشقيون اليوم {بولاد}، وكانت زالت الصناعة من دمشق نتيجة تدمير المدينة تحت غزوة تيمورلنگ في القرن 14، التي أحرقت المدن الجزراوية والشامية جميعاً بما فيها دمشق، قبل عودة تيمورلنگ إلى سمرقند مصطحباً خبراء الصناعات والحرفيّين أسرى وعبيد.

والبولاد الدمشقي هو نسخة أرخص من الفولاذ الدمشقي، ضاعت تقنية صناعته الأصلية منذ بداية القرن 19، لكن من المعروف عنها ومن النصوص القديمة، أنّها كانت تتضمّن في مرحلتها الأخيرة إطفاء نصل السيف بغمسه في برميل يحتوي زيت زهرة {الشبرق الشائك}، ثمّ يتمّ تبريد السيف سريعاً بتعريضه إلى ريح قويّة. و{الشبرق الشائك} هي فصيلة من البقوليات أصولها من المشرق العربي وانتشرت لاحقاً في المغرب وجنوب أوروپا.

سنة 1838 تمكّن مهندس المناجم الروسي {أنوسف بتروڤيتش} Аносов Павел Петрович من صناعة نصل مشابه للبولاد بعد دراسة السيف الدمشقي لثلاثة عشر سنة.

متى انقرض السيف الدمشقى و توقفت صناعته؟

انقرضت صناعة السيف الدمشقي في سوريا خلال القرن السابع عشر، وانقرض تعدين الفولاذ الدمشقي بعدها بنحو مئة عام بسبب توقّف تصدير الفولاذ الهندواني من الهند، وبسبب وفاة حملة سرّ المهنة الذين أخذنها معهم إلى القبر.

توقّفت صناعة السيف الدمشقي في الهند سنة 1750 تحت ضغوط الإنگليز على صناعات دلهي، وكذلك بسبب تضييقهم على تجارة نظام الملك الخارجية. نظام الملك هي أسرة عريقة من سمرقند أسّست وحكمت سلطنة حيدرآباد جنوب الهند خلال القرن 18 واحتكرت تصدير الفولاذ الهندواني.

وكان آخر من استورد الفولاذ الهندواني في دمشق هم بيت نظام، أقرباء {آصف جاه} ملوك حيدرآباد. وآل نظام هم المُلّاك الأصليّون لبيت نظام في حارة مئذنة الشحم في شاغور دمشق، القصر الفخم الذي تحوّل إلى مقرّ القنصل الإنگليزي في سوريا مع احتلال الإنگليز لسلطنة حيدرآباد في الهند.